التقاضي عن بعد في السعودية- السرعة والكفاءة وتحقيق العدالة

المؤلف: عبداللطيف الضويحي09.03.2025
التقاضي عن بعد في السعودية- السرعة والكفاءة وتحقيق العدالة

في السنوات الأخيرة، توصل الإنسان إلى اكتشاف جوهري يعتبر من أثمن المكتشفات على الإطلاق، ألا وهو اكتشاف قيمة الوقت المهدر والضائع. ويعود هذا الفضل الكبير إلى التطور الهائل في تقنيات الاتصالات الحديثة التي سهلت إنجاز المهام المختلفة. هذه التقنيات اختصرت بشكل كبير الوقت الذي كان يستغرقه إنجاز أي عمل، مهما كان بسيطًا أو معقدًا، وذلك قبل أن تستخدمها المؤسسات والأفراد على نطاق واسع.

هذا الكم الهائل من الوقت الذي تم توفيره، حفز الأفراد والمؤسسات على البحث الدؤوب عن المزيد من الوقت المهدر، مما أدى إلى تسارع وتيرة الإنجاز في جميع جوانب الحياة. ولكن يبقى السؤال الجوهري: أين يكمن الخط الفاصل بين استغلال الوقت المهدر وزيادة السرعة المفرطة في إنجاز المهام لتحقيق الأهداف المنشودة؟ ومتى تكون السرعة محمودة ومقبولة، ومتى تتجاوز الحدود وتصبح غير مرغوبة؟ بمعنى آخر، ما هي السرعة المثالية والمتوازنة التي تراعي أهمية الهدف وتستغرق الوقت الكافي لتحقيقه بأفضل صورة، دون التضحية بالجودة أو النتائج النهائية؟ ومتى تصبح السرعة هدفًا بحد ذاتها، بغض النظر عن المخرجات؟

إن التقاضي عن بُعد، أو التقاضي الرقمي كما يُعرف، هو أحد أبرز ثمار ثورة الاتصالات الحديثة، حيث ساهم بشكل كبير في تقريب المسافات بين الأطراف المتنازعة والمحامين والمؤسسات القضائية. لقد وفر هذا النظام سنوات ضوئية من الوقت، وقلل بشكل ملحوظ من الإجراءات الإدارية المعقدة والبروتوكولات الشكلية التي كانت جزءًا لا يتجزأ من عمليات التقاضي التقليدية في الكثير من الحالات. بل يمكن القول بكل ثقة إن التقاضي عن بُعد قد ساهم في توفير الكثير من الأموال المهدرة، وبالتالي عزز من كفاءة الإنجاز وتحقيق الأهداف المنشودة.

وفقًا لإحصائيات منصة وزارة العدل السعودية، فقد بلغ عدد جلسات التقاضي الإلكتروني التي عُقدت منذ إطلاق هذه الخدمة المبتكرة في مارس 2020 حوالي 1.35 مليون جلسة مرئية عن بُعد. كما قامت المحاكم بإصدار ما يقارب 438 ألف حكم عن بُعد. وتجدر الإشارة إلى أن التقاضي الإلكتروني يشمل جميع الإجراءات القانونية المنصوص عليها في الأنظمة والقوانين والتي يمكن تطبيقها إلكترونيًا، بدءًا من تقديم المستندات والمحررات وتبادل المذكرات، وصولًا إلى عقد الجلسات والمرافعات والنطق بالحكم واستلام نسخة منه والاعتراض عليه أمام المحكمة الأعلى درجة، وذلك كله من خلال منصة إلكترونية مخصصة لهذا الغرض. ويتم التقاضي بنوعيه، سواء كان ذلك بشكل كتابي أو مرئي.

إن السرعة القياسية التي تم بها تطبيق النظام العدلي الرقمي في المملكة العربية السعودية أثارت دهشة وإعجاب الكثيرين، ليس على المستوى المحلي فحسب، بل على المستوى الدولي أيضًا. فقد بدأت العديد من الدول، بما في ذلك بعض الدول الغربية المتقدمة، في محاكاة التجربة السعودية الرائدة في مجال التقاضي عن بُعد.

وبصفتي كاتبًا، يملؤني الفخر والاعتزاز بهذه التجربة الرقمية الغنية، وبانعكاساتها الإيجابية على مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإدارية. كما أنني أقدر مردودها الثقافي الكبير على المواطنين والمقيمين على حد سواء، على الرغم من حداثة هذه التجربة.

إلا أنني لا أخفي أيضًا بعض القلق والتوجس بشأن أي تجربة جديدة بهذا الحجم، وما قد يتركه التركيز على الإنجاز الكمي من تأثير على الجودة النوعية، ليس فقط في مجال التقاضي الإلكتروني، بل في جميع المشاريع الكبرى ذات الأهمية والتأثير الكبيرين، مثل مشروع التقاضي عن بُعد.

لا يراودني أدنى شك في أن وزارة العدل والمؤسسة القضائية بأكملها تدرك تمام الإدراك أهمية تحقيق التوازن والتكامل بين الجودة والكمية في أي إنجاز. يجب ألا تكون السرعة هدفًا على حساب تحقيق الأهداف الجوهرية للعملية العدلية. فمهما كانت السرعة مهمة وتوفير الوقت مطلوبًا، إلا أن تحقيق العدالة في كل قضية، وضمان المساواة بين جميع الأطراف المتنازعة، يجب أن يكون له الأولوية القصوى على أي اعتبار آخر.

قد لا أقدم جديدًا، حين أقترح على المسؤولين في وزارة العدل والمؤسسة القضائية أن يتم تشكيل فريق بحثي مستقل، وتكليف هذا الفريق بإجراء دراسة شاملة ومتعمقة لمختلف أنواع القضايا والأحكام التي صدرت في ظل بيئة التقاضي الإلكتروني، ومقارنتها بالقضايا والأحكام المماثلة التي نُظرت وصدرت أحكامها في إطار التقاضي التقليدي. أعتقد أن هذه الدراسة ستثمر عن فوائد جمة، وستنعكس بشكل إيجابي على التقييم الشامل لإيجابيات وسلبيات التقاضي الإلكتروني مقارنة بالتقاضي التقليدي، حيث يكون الحضور المباشر للأطراف المتنازعة والمحامين والقضاة وجهًا لوجه، والتواصل يتم دون الحاجة إلى وسائط تقنية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة